دراسات

التقارب الصيني-الروسي وتأثيره على التوازنات في الشرق الأوسط

تدخل منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة مع قدوم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للبيت الأبيض بأيديولوجيا وسياسات معلنة تحمل اختلافاً عن السابق فيما يخص المنطقة. كما تتسم هذه الحقبة الجديدة باشتداد التنافس بين القوى العظمى، الصين وروسيا والولايات المتحدة، في محاولة كل منها لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، في وقتٍ تتقارب فيه الرؤى بين بيجين وموسكو تحت وطأة الضغط المتزايد على كليهما من قِبل واشنطن.

وهذه الورقة تبحث في مدى وجود استراتيجية صينية-روسية مشتركة في المنطقة، انطلاقاً من مناقشة المحددات العامة للتقارب الصيني-الروسي، وتحليل سياسات بيجين وموسكو في الشرق الأوسط وتأثيرها على وضع الولايات المتحدة والدول الإقليمية الرئيسية.

محددات التقارب الصيني-الروسي

ارتكزت العلاقات الثنائية بين الصين وروسيا، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، على:

  • التوافق على معارضة سياسة القطب الأوحد الأمريكية والتدخل في “المصالح الأساسية” داخل الدولتين أو بالقرب من حدودهما.
  • دعم نظرية الحكم السلطوي في علاقة المجتمع بالدولة حول العالم، ومقاومة تصدير الغرب لـ “القيم الليبرالية العالمية”، بالتزامن مع تنامي ريبة بيجين وموسكو تجاه “الثورات الملونة” واعتقادهما أنها تتم بدفع غربي.
  • شعور قومي متصاعد قائم على ارث شيوعي وحضارة قديمة وإحساس شعبي عام بأن بلديهما يستحقان مكانة أفضل على الصعيد العالمي[1].

وبعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، بدأ التقارب الروسي مع الصين يأخذ منحنى جدياً في العلاقات. وقد شعرت روسيا حينذاك بالعزلة الاستراتيجية نتيجة الضغط الغربي الكبير المتمثل في العقوبات الاقتصادية المتلاحقة خلال الحرب في شرق أوكرانيا في أعقاب ضم القرم. لكن يمكن القول إن 2020 هو عام التحول الكبير في العلاقات بين الجانبين، وذلك بسب التصعيد الأمريكي ضد الصين، من الحرب التجارية وحتى الضغط عليها فيما يتعلق بسياساتها في هونغ كونغ وإقليم شينجيانغ وبحر الصين الجنوبي وتفشي فيروس كورونا؛ وتنامي الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، وبشكل خاص تلك التي تواجه الاقتصاد الروسي؛ والتراجع الحاد في أسعار النفط والغاز الطبيعي.

ووصل حجم التجارة بين الصين وروسيا في عام 2019، قبل التراجع بسبب غلق الحدود بعد انتشار الفيروس، إلى 110 مليار دولار على أساس سنوي، وفقاً لسلطات الجمارك الصينية[2]. وتمكنت روسيا من تخطي السعودية كأكبر مصدر للنفط إلى الصين[3]. وتسعى شركة غازبروم الروسية العملاقة إلى زيادة حجم صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الصين لثلاثة أضعاف عبر خطي الأنابيب “قوة سيبيريا 1″ و”قوة سيبيريا 2”[4]. وعززت الصين من الاستثمار في مشروعات كبيرة للطاقة في احتياطات روسيا الهائلة في القطب الشمالي المتجمد.

ووجدت روسيا ضالتها في شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى. فقد وقَّعت الشركات الروسية اتفاقات مع هواوي لبناء شبكة الاتصالات 5G. وعقدت اتفاقات أخرى مع الشركات الصينية الرائدة في مجال تكنولوجيا التجسس والتعرف على الوجه. وتسعى الصين لتطبيق تجربتها في التوظيف الواسع للتكنولوجيا في عمليات الرصد والتتبع المرتبطة بمحاربة فيروس كورونا في روسيا. وقد يرسم هذا التعاون التكنولوجي المتنامي خارطة الصراع على التقنية العالية في منطقة يوروآسيا مع الشركات الغربية[5].

وانسحب التحدي الصيني-الروسي للغرب وحلفائه على المجال العسكري. وشهد شهر ديسمبر الماضي إطلاق البلدين دوريات جوية في منطقة غرب المحيط الهادئ وبحر الصين الشرقي ضمت قاذفات ثقيلة، كجزء من مناورات عسكرية سنوية بينهما. أثارت هذه المناورات حفيظة حلفاء الولايات المتحدة، اليابان وكوريا الجنوبية، وجاءت بعد يوم واحد من فرض إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عقوبات متزامنة على شركات صينية وروسية ادَّعت أن لها علاقات وثيقة بالجيش في البلدين[6].

ويتعزز التقارب بين بيجين وموسكو على كل الأصعدة. ويعكس هذا التقارب تعاظم أهمية الصين كشريك اقتصادي وسوق كبير بالنسبة لروسيا التي يواجه اقتصادها صعوبات كبيرة. لكن، على الجانب الآخر، زادت قيمة روسيا بالنسبة للصين بشكل غير مسبوق. فخلال فترة اشتداد العقوبات الأوروبية والأمريكية ضد روسيا عام 2014، كانت الصين تدرك رغبة روسيا الملحة حينها للخروج من العزلة الدولية عبر تعميق علاقاتها مع الصين، لكنها حافظت على مسافة من روسيا خشية الدخول في صدام مع الولايات المتحدة في وقت مبكر من فترة حكم الرئيس شي جينبنغ. لكن أدت المواجهة المستمرة مع الغرب لقناعة متنامية في الصين بأنها أصبحت في حاجة إلى تعميق العلاقات مع الشريك الروسي، وسط اعتقاد واسع النطاق في بيجين بأن سياسة تحجيم صعود الصين الأمريكية لن تنتهي برحيل ترمب. وخلال اللقاء السنوي الأول في برلمان الشعب في مايو الماضي، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن روسيا دعمت الصين وإن البلدين “سيقفان جنباً إلى جنب ضد محاولات الولايات المتحدة تحميل بيجين المسؤولية” عن تبعات فيروس كورونا[7].

وظهر التحدي المزدوج للهيمنة الغربية في عملية “التحلل من الدولار” De-dollarization التي يشرف على تنفيذها بشكل مباشر الرئيسان الصيني والروسي. ويشعر الزعيمان أن الوقت قد حان لإنهاء (أو على أقل تقدير تخفيف) الهيمنة الأمريكية على سوق المال العالمي. كما يعني تقليص التعامل بالدولار بين البلدين حصانة ضد العقوبات الاقتصادية التي تحوَّلت مؤخراً إلى سلاح أمريكي فعال ضد مصالحهما. فخلال الربع الأول من العام الماضي، تراجع حجم التجارة الصينية-الروسية بالدولار إلى أقل من 50 بالمئة، وهو أقل نسبة في التاريخ بالنظر إلى أن حجم التجارة بالدولار بينهما وصلت في عام 2014 إلى 90 بالمئة[8]. وفي المقابل، وسَّع الجانبان اعتمادهما على اليورو، ثم الروبل واليوان. ويمكن ملاحظة أن فيروس كورونا وتبعاته خلق نموذجاً للتعاون بين الصين وروسيا يعيد تدريجياً الركائز الأساسية التي قامت عليها العلاقات بين الجانبين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

تبعات التقارب الصيني-الروسي على الشرق الأوسط

أظهرت الصين وروسيا فاعلية كبيرة في توسيع نفوذهما وتحدي الهيمنة الأمريكية في شرق آسيا وشرق أوروبا والشرق والأوسط. وقد عبَّر عن ذلك قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ماكينزي العام الماضي بالقول إن الشرق الأوسط أصبح ساحة صراع بين القوى الكبرى، “حيث تسعى الصين لاستخدام ثقلها الاقتصادي في بناء رأس جسر استراتيجي طويل المدى، بينما تنشر روسيا قدرات عسكرية ضئيلة لكنها عالية التركيز لعرقلة الولايات المتحدة”[9].

وتعكس تقديرات القادة الأمريكيين أن التحليلات المشار إليها حول تراجع القوة الأمريكية في المنطقة ليست خاطئة تماماً. لكن تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التفرقة بين المصالح الأمريكية المباشرة، المتصلة بالاقتصاد الأمريكي وإمدادات الطاقة والأمن من جهة، واستقرار النظام العالمي من جهة أخرى. فالشرق الأوسط لم يعد بنفس درجة الأهمية بالنسبة للمصالح القومية الأمريكية المتصلة اتصالاً مباشراً بالأراضي الأمريكية، لكن أهميته تزداد من الناحية الاستراتيجية كأحد الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي. فمنذ عام 2005، عندما كانت الولايات المتحدة تستورد 60 بالمئة من احتياجاتها النفطية، تقلَّص اعتمادها تدريجياً على مصادر الطاقة الخارجية، إلى أن أصبحت أكبر منتجي العالم. لكن ظلّت حقيقتان ثابتتان تتحكمان في بيئة الطاقة العالمية: الأولى، أن الشرق الأوسط مازال، وسيظل، العامل الأول في تحديد مستوى أسعار النفط وحجم الإمدادات وبالتالي أداء السوق العالمي، باعتبار أنه يحتوي على 56 بالمئة من الاحتياطات العالمية. والثانية، أن اكتساب الولايات المتحدة مناعة من التقلبات المتصلة بالطاقة خارج أراضيها لا يعني فك ارتباطها بالاقتصاد العالمي. وإلى جانب ذلك، سيظل تفوُّق إسرائيل العسكري ووحدة المجتمع الإسرائيلي العرقية والدينية وأمنه مسؤولية أمريكية. وستستمر التوترات الطائفية في السماح للإرهاب بالصعود من وقت لآخر.

استراتيجية الصين في المنطقة

يمكن تقسيم عناصر الاستراتيجية الصينية في المنطقة على النحو الآتي:

1) يُمثِّل الوصول الدائم إلى مصادر الطاقة المصلحة الاستراتيجية العليا للصين في الشرق الأوسط. فالصين تعتمد على المنطقة لتوفير 47 بالمئة من إمداداتها النفطية، وفقاً لإحصاءات شهر نوفمبر الماضي[10]. وقدَّمت الهجمات على منطقتي بقيق وخريص السعوديتين في 2018 محاكاة عملية لما تخشاه الصين، وهو تعطُّل الإمدادات. وكان هذا الهجوم أحد أسباب توسُّع الصين في سياسة تنويع مصادر الطاقة خلال العامين الماضيين لتشمل زيادة الواردات من روسيا وأنغولا وأمريكا اللاتينية[11]. ويعكس هذا التوجه رغبة صينية في تبني محاذير استراتيجية ضد محاولة الولايات المتحدة، أو أي قوة أخرى قد تدخل في نزاع مستقبلي مع الصين، قطع سلاسل توريد إمدادات الطاقة عنها. وفوق ذلك، يوحي أيضاً بسياسة صينية تستبعد اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية أو أي أساليب بديلة عن الدبلوماسية للحفاظ على تدفق وارداتها النفطية من المنطقة.

2) لا يوجد أي دليل حتى الآن على أن الصين تتَّجه إلى تبني مواقف واضحة أو دعم طرف على حساب آخر في صراعات المنطقة، أو التخلي عن المقاربة التجارية والاقتصادية لصالح مقاربة ذات أبعاد سياسية. وبجانب ذلك، حاولت الصين خلال الأعوام الماضية الحفاظ على مسافة واحدة من أطراف الصراع داخل الدولة الواحدة أيضاً، سواء في سوريا أو الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أو اليمن أو ليبيا.

3) على عكس الولايات المتحدة، فإن عقيدة الجيش الصيني قائمة على الدفاع عن حدود الصين والحفاظ على وحدة أراضيها وحماية الحكم الشيوعي، وليس على توسيع نفوذ الصين على مستوى عالمي. وبالتالي، لا تنظر الصين إلى الشرق الأوسط باعتباره منطقة محورية للدفاع عن أمن الأراضي الصينية، ولا يندرج كمنطقة أساسية بالنسبة لخطوط الإمداد اللوجيستية العسكرية للصين.

4) برغم عدم رغبتها في تحدي المنظومة الأمنية الأمريكية في المنطقة، عزَّزت كثير من الدول العربية اعتمادها الاقتصادي المتبادل مع الصين التي تحوَّلت إلى أكبر شريك تجاري لأغلب دول المنطقة عام 2016.

وخلال وضع استراتيجياتها للتعامل مع صعود الصين، تواجه الدول الخليجية بعض التناقض. فسياسة الصين الثابتة القائمة على “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول” تجعلها طرفاً يمكن الاعتماد عليه من قبل القوى الإقليمية ضمن سعيها لتخفيف الاعتماد الزائد على الولايات المتحدة وإحداث بعض التوازن في علاقاتها وخلق خيارات استراتيجية مهمة، دون التعرُّض لضغوط أيديولوجية تتعلق بأنظمتها السياسية الداخلية. لكن نفس سياسة الحياد هذه لا توحي بأن الصين قد تخطط، أو تملك الإمكانيات التي تؤهلها بعد، لأن تصبح بديلاً عن الهيمنة الأمريكية في المستقبل القريب[12]. وحتى لو تطورت طموحات الصين لكي تصبح قوة عظمى مؤثرة في سياسات الشرق الأوسط، فمن غير المرجح أن تتخذ تحركاتها طابعاً أشبه بأيام الحرب الباردة، أو أن تقوم بذلك بشكل منفرد بالنظر إلى إشارة المحللين الصينيين المستمرة للخسائر الاقتصادية والعسكرية التي تكبدتها الولايات المتحدة على مدار الثلاثة عقود الماضية جراء تدخُّلها المستمر في صراعات الإقليم.

وقد عكست تصريحات المرشح لتولي منصب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال جلسة استماع في الكونغرس عقدت مؤخراً، أن سياسة إدارة الرئيس جو بايدن تجاه الصين لن تتغير بشكل جذري عن سياسات ترمب، نتيجة التوافق بين الحزبين على التشدد تجاه الصين[13]. ويعني ذلك أن الإدارة الجديدة قد تلجأ للاستمرار في تنافسها القوي مع الصين في مجال التكنولوجيا، والضغط على دول المنطقة للتخفيف من المشاريع الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق، خصوصاً المشاريع التي تعتقد واشنطن أن لها تبعات أمنية على مصالحها[14].

السياسة الروسية في الشرق الأوسط

أظهر التدخل الروسي العسكري في الشرق الأوسط، منذ عام 2015، مرونة تكتيكية غابت عنها أي رؤية استراتيجية واضحة. وكان هذا التدخل مكلفاً بالنسبة للاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات الأمريكية والأوروبية المتصاعدة منذ عام 2014. وفي سوريا وليبيا، لم تحقق روسيا مكاسب كبيرة. فقد بقي بشار الأسد في السلطة، لكن البلد تدمَّر عن آخره، كما فشل خليفة حفتر في السيطرة على طرابلس. وتسبب فيروس كورونا، الذي خلق أزمة اقتصادية كبرى في روسيا أثرت على أسعار النفط، في مفاقمة الوضع. ورغم تبني روسيا أهدافاً (وإرسال موارد) محدودة، فقد وصف تشارلز ليستر، الباحث في معهد الشرق الأوسط، تبعات التدخل الروسي بشكل صحيح عندما ذكر أنه “مكلف (بالنسبة لروسيا) بنفس قدر التدخلات الأمريكية التي لطالما عارضتها روسيا بقوة”[15].

لكن لا ينبغي النظر إلى سياسات روسيا في المنطقة من منطلق ملء الفراغ الإقليمي الذي تركته واشنطن خلال إدارتي أوباما وترمب فقط، وإنما أيضاً انطلاقاً من تفاعلات داخلية قائمة على رغبة في إعادة روسيا إلى مستوى “القوة العظمى” مرة أخرى وتعزيز المشاعر القومية[16]. وإلى جانب المصالح الروسية التقليدية، المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وضمان التعاون في مجال الطاقة، والحفاظ على مكانتها كمصدر أساسي للأسلحة، وسَّع الرئيس بوتين بعد مرحلة “الربيع العربي” من أهداف روسيا في الشرق الأوسط لتشمل:

  1. إجبار الولايات المتحدة على تفهُّم مصالح روسيا، والتعامل معها كقوة عظمى مكافئة لها.
  2. الدوران حول جبهة الناتو الجنوبية في كل من منطقتي شرق وجنوب المتوسط (سوريا وليبيا).
  3. تعزيز العلاقات الروسية مع إيران، ومحاولة إطالة أمد الخلاف بين تركيا وحلف الناتو[17].

وعلى عكس الصين، فسياسة روسيا واضحة بعد “الربيع العربي” وهي الانحياز للحكومات وأنظمة الحكم على حساب المطالب الشعبية[18].

هل هناك استراتيجية مشتركة للصين وروسيا في الشرق الأوسط؟

تتقارب فلسفة توسيع النفوذ الصيني والروسي في الشرق الأوسط من حيث اتِّباع نهج تدريجي ومنخفض الحدة وطويل الأمد. ويتفق البلدان على بعض الجوانب الأساسية المتصلة بالأهداف التكتيكية في المنطقة. فموسكو وبيجين تسعيان إلى تحديد قوة الولايات المتحدة الإقليمية، دون الذهاب بعيداً ومحاولة إجبارها على الانسحاب من المنطقة تماماً، حيث لا يصب ذلك في مصلحة أيٍّ منهما. وتتفقان أيضاً على ضرورة الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع القوى الإقليمية الرئيسية، إلى جانب عدم الانجرار لكي تصبح أيٌّ منهما طرفاً في الصراعات الإقليمية الكبرى، خصوصا التنافس السعودي-الإيراني، والصراع الإيراني-الإسرائيلي.

لكن يُلاحظ أن كل قوة ترسم سياستها المتصلة ببناء قاعدة نفوذها في المنطقة بشكل منفصل عن القوة الأخرى. وفوق ذلك، تتبنَّى كل القوتين أدوات متناقضة أحياناً، كتوظيف الصين وزنها الاقتصادي والتكنولوجي، مقابل توسيع روسيا أنشطتها العسكرية وحصتها من تجارة الأسلحة وتفاعلات علاقتها مع دول منظمة أوبك لضبط إنتاج النفط العالمي. وأبعد من ذلك، فإن الوجود العسكري لكلٍّ من الصين وروسيا في الشرق الأوسط لا يحمل في مضمونه نفس البعد. فالهدف الاستراتيجي للقواعد العسكرية الروسية في سوريا والقوات الروسية في ليبيا هو الضغط على النظام الأمني الأمريكي في الإقليم وكسب اعتراف بروسيا كقوة مؤثرة في تطوراته الجيوسياسية. بينما الغرض الأول والأهم للقاعدة الصينية في جيبوتي هو الحفاظ على حرية الملاحة وضمان تدفُّق واردات النفط الصينية من منطقة الخليج. ويظل هذا الاختلاف قائماً في الأنشطة العسكرية المشتركة بينهما أيضاً، كالمناورات الصينية-الروسية-الإيرانية بالقرب من مضيق هرمز في ديسمبر 2019.

وأيضاً، تظل خلافات الصين وروسيا خارج الشرق الأوسط سبباً محتملاً لعرقلة التوصل إلى استراتيجية مشتركة بعيدة المدى في المنطقة. فمؤخراً، تصاعدت الخلافات بين الجانبين حول مشاعر تاريخية متصلة بمدينة فلاديفوستوك الحدودية، التي يعتبرها الصينيون جزءًا من بلادهم. وإضافة إلى ذلك، زاد الغضب الصيني جرَّاء تعزيز روسيا مبيعات الأسلحة للهند المنخرطة في نزاع حدودي ساخن مع الصين، إلى جانب تأخير إرسال أنظمة الدفاع الجوية S-400 التي اشترتها الصين منذ فترة. وينتاب المسؤولون الصينيون قلق من إمكانية سَعْي الولايات المتحدة للتقارب مع روسيا ضمن محاولاتها كبح الصعود الصيني. ولم يستبعد وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو هذه الاحتمالية، وعبَّر عن اعتقاده بأن “هناك فرصة لحدوث ذلك”[19].

الإدارة الأمريكية الجديدة ومواجهة خطط الصين وروسيا في المنطقة

في ضوء التشابه (وربما التطابق) الذي عكسته تصريحات بلينكن مع سياسة سلفه في وزارة الخارجية الأمريكية تجاه الصين، يسود اعتقاد بأن الشرق الأوسط أيضاً قد يشهد استمرارية في السياسات الأمريكية المتصلة بالنفوذ الصيني. وبناءً على ما سبق يمكن استنتاج رؤية إدارة بايدن لمواجهة خطط الصين وروسيا في المنطقة على النحو الآتي:

1) تتفق بيجين وموسكو مع إدارة بايدن على حرية الملاحة البحرية ومحاربة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية (الاتفاق النووي الإيراني). ولدى الصين وروسيا توافق على أن مصالحهما تقتضي عدم تحمُّل أعباء الشرق الأوسط دون الولايات المتحدة.

2) بناء على ذلك، يُتوقَّع أن تكون الإدارة الأمريكية الجديدة حذرة فيما يتعلق بالانجرار للتدخل العسكري في صراعات المنطقة، وأن توفر موارد كبيرة لتوسيع نفوذها في شرق آسيا ومنطقة بحر البلطيق. هذا يعني الاستمرار في عملية إعادة تموضع القوات الأمريكية في المنطقة ضمن تعهد بايدن بـ “وضع حد للحروب الدائمة” في المنطقة، لكن على فترات أبعد وبمعدلات أكثر بطئاً.

3) تواجه إدارة بايدن مشكلة تتصل بغياب الاستمرارية في علاقتها مع القوى الإقليمية، خصوصاً في أثناء رئاسة ترمب. وكما تعهد بايدن، فإن طمأنة حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين تهدف إلى إقناعهم بعدم البحث، في علاقاتهم مع بيجين وموسكو، عن بدائل للتحالف مع الولايات المتحدة.

4) ستنسحب الاستمرارية في السياسة الأمريكية تجاه الصين أيضاً على مراقبة مشاريع مبادرة الحزام والطريق، ووضع عراقيل، وطرح بدائل، للمشروعات التي قد تكون لها تبعات أمنية على مصالح الولايات المتحدة ودول المنطقة.

5) تواجه إدارة بايدن ضغوطاً لتبني استراتيجية اقتصادية بعيدة المدى تتضمن عناصر تنافسية، خصوصاً في قطاعي التكنولوجيا والاتصالات.

6) من منظور أمريكي، فإن الصين هي القطب الثاني في النظام العالمي الجديد، وروسيا هي قوة مرجحة فقط. وللمفارقة، فإن ثمة اتفاق في الأوساط البحثية الصينية مع واشنطن حول هذه الرؤية[20].

وكل ما سبق يُشكل عراقيل أمام أي جهود لتوحيد الاستراتيجية بين الصين وروسيا في الشرق الأوسط قريباً، وذلك بالرغم من وجود مؤشرات على تقارب على المستوى التكتيكي قصير المدى.

الخلاصة

تشهد العلاقات الثنائية بين الصين وروسيا تقارباً متسارعاً كرد فعل على الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على الدولتين، والأزمة الاقتصادية الناتجة عن تفشي فيروس كورونا. وعلى صعيد الشرق الأوسط، تتفق الصين وروسيا على عدم تحدِّي الوجود الأمريكي في حد ذاته أو تقويض منظومة الأمن الأمريكية، وتتفقان على تبني مقاربة تدريجية ومنخفضة التكلفة، لكنهما تختلفان في الأهداف الاستراتيجية المرجوة من ورائها. فبينما يبدو الحفاظ على تدفُّق النفط إلى الصين أهم أولوية استراتيجية بالنسبة لها، فإن روسيا ترغب في الظهور كقوة مؤثرة ومكافئة للولايات المتحدة فيما يتعلَّق ببعض قضايا المنطقة الساخنة. لكن في نفس الوقت، تحرص القوتان على عدم الانجرار إلى أزمات كبرى، كالتنافس السعودي-الإيراني، والصراع الإيراني-الإسرائيلي. وإجمالاً، لم تتمكَّن الصين وروسيا من التوافق، حتى الآن، على تبني استراتيجية مشتركة في الشرق الأوسط.

مركز الامارات للدراسات
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق